كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالثة: اختلف العلماء في آخر وقت المغرب؛ فقيل: وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس، وذلك بيّنٌ في إمامة جبريل؛ فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه.
وهو أحد قولي الشافعيّ في المشهور عنه أيضًا، وبه قال الثوري.
وقال مالك في الموطأ: فإذا غاب الشفق فقد خرجْتَ من وقت المغرب ودخل وقت العشاء.
وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والحسن ابن حيّ وإسحاق وأبو ثَور وداود؛ لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله.
ولحديث أبي موسى، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخّر حتى كان عند سقوط الشفق؛ خرجه مسلم.
قالوا: وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل؛ لأنه متأخر بالمدينة وإمامة جبريل بمكة، والمتأخر أولى من فعله وأمره؛ لأنه ناسخ لما قبله.
وزعم ابن العربيّ أن هذا القول هو المشهور من مذهب مالك، وقوله في موطَّئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته.
والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوًا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكلّ إلى الآخر.
قلت: القول بالتّوسعة أرجح.
وقد خرّج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قريبًا من غروب الشمس فلم يُصَلّ المغرب حتى أتى سَرِف، وذلك تسعة أميال.
وأما القول بالنسخ فليس بالبيّن وإن كان التاريخ معلومًا؛ فإن الجمع ممكن.
قال علماؤنا: تُحمل أحاديث جبريل على الأفضلية في وقت المغرب، ولذلك اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها في حين غروب الشمس.
قال ابن خُوَيْزِ مَنْداد: ولا نعلم أحدًا من المسلمين تأخّر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس.
وأحاديث التّوسعة تبين وقت الجواز، فيرتفع التعارض ويصح الجمع، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين؛ لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما.
والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر} انتصب {قرآن} من وجهين: أحدهما أن يكون معطوفًا على الصلاة؛ المعنى: وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح؛ قاله الفراء.
وقال أهل البصرة.
انتصب على الإغراء؛ أي فعليك بقرآن الفجر؛ قاله الزجاج.
وعبّر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور؛ عن الزجاج أيضًا.
قلت: وقد استقرّ عمل المدينة على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدرا لا يضر بمن خلفه يقرأ فيها بطوال المفصَّل، ويليها في ذلك الظهر والجمعة وتخفيف القراءة في المغرب وتوسطها في العصر والعشاء.
وقد قيل في العصر: إنها تخفّف كالمغرب.
وأما ما ورد في صحيح مسلم وغيره من الإطالة فيما استقرّ فيه التقصير، أو من التقصير فيما استقرّت فيه الإطالة؛ كقراءته في الفجر المعوذتين كما رواه النَّسائي وكقراءة الأعراف والمرسلات والطور في المغرب، فمتروك بالعمل.
ولإنكاره على معاذ التطويل حين أمّ قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة.
خرّجه الصحيح.
وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال: «أيها الناس إن منكم منفّرين فأيكم أمّ الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة» وقال: «فإذا صلى أحدكم وحده فليطوّل ما شاء» كله مسطور في صحيح الحديث.
الخامسة: قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر} دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة؛ لأنه سَمَّى الصلاة قرآنًا.
وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب قراءة أم القرآن للإمام والفَذّ في كل ركعة.
وهو مشهور قول مالك.
وعنه أيضًا أنها واجبة في جُلّ الصلاة.
وهو قول إسحاق.
وعنه أيضًا تجب في ركعة واحدة؛ قاله المُغِيرة وسُحْنُون.
وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة.
وهو أشدّ الروايات عنه.
وحُكي عن مالك أيضًا أنها تجب في نصف الصلاة، وإليه ذهب الأوزاعيّ.
وعن الأوزاعيّ أيضًا وأيوب أنها تجب على الإمام والفَذّ والمأموم على كل حال.
وهو أحد قولي الشافعيّ.
وقد مضى في الفاتحة مستوفًى.
السادسة: قوله تعالى: {كَانَ مَشْهُودًا} روى الترمذيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وقرآنَ الفجرِ إن قرآن الفَجْرِ كان مشهودًا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» هذا حديث حسن صحيح.
ورواه عليّ بن مُسْهِر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {وقرآنَ الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}.
ولهذا المعنى يُبَكّر بهذه الصلاة، فمن لم يبكر لم تشهد صلاته إلا إحدى الفئتين من الملائكة.
ولهذا المعنى أيضًا قال مالك والشافعيّ: التغليس بالصبح أفضل.
وقال أبو حنيفة: الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار، فإن فاته ذلك فالإسفار أوْلَى من التغليس.
وهذا مخالف لما كان عليه السلام يفعله من المداومة على التغليس، وأيضًا فإن فيه تفويتَ شهود ملائكة الليل.
والله أعلم.
السابعة: استدلّ بعض العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» على أن صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار.
قلت: وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضًا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار؛ فإن في الصحيح عن النبيّ الفصيح عليه السلام فيما رواه أبو هريرة: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر» الحديث.
ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والأيمان، وهذا واضح.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: {وَمِنَ الليل} {من} للتبعيض.
والفاء في قوله: {فتهجّد} ناسقة على مضمر، أي قم فتهجد.
{بِهِ} أي بالقرآن.
والتَّهَجُّد من الهجود وهو من الأضداد.
يقال: هجد نام، وهجد سهر؛ على الضد.
قال الشاعر:
ألا زارَتْ وأهلُ مِنًى هجود ** وليْت خيالها بمنًى يعود

آخر:
ألاَ طرقتنا والرّفاق هجود ** فباتت بِعَلاّت النوال تجود

يعني نِيامًا.
وهجد وتهجد بمعنًى.
وهجّدته أي أنمته، وهجدته أي أيقظته.
والتهجّد التيقظ بعد رَقْدة، فصار اسما للصلاة؛ لأنه ينتبه لها.
فالتهجد القيام إلى الصلاة من النوم.
قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم.
وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كلّه أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقْدة ثم الصلاة بعد رقْدة ثم الصلاة بعد رقدة.
كذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الهجود النوم.
يقال: تهجد الرجل إذا سَهِر، وألقى الهجود وهو النوم.
ويسمى من قام إلى الصلاة متهجدا؛ لأن المتهجد هو الذي يُلقي الهجود الذي هو النوم عن نفسه.
وهذا الفعل جارٍ مجرى تحوّب وتحرّج وتأثّم وتحنّث وتقذّر وتنجّس؛ إذا ألقى ذلك عن نفسه.
ومثله قوله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] معناه تندّمون؛ أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، وهي انبساط النفوس وسرورها.
يقال رجل فَكِه إذا كان كثير السرور والضحك.
والمعنى في الآية: ووقتا من الليل أسهرته في صلاة وقراءة.
الثانية: قوله تعالى: {نَافِلَةً لَّكَ} أي كرامة لك؛ قاله مقاتل.
واختلف العلماء في تخصيص النبيّ صلى الله عليه وسلم بالذكر دون أمته؛ فقيل: كانت صلاة الليل فريضة عليه لقوله: {نافلة لك} أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة.
قلت: وفي هذا التأويل بعدٌ لوجهين:
أحدهما: تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات فرضهن الله على العباد» وقوله تعالى: «هن خمس وهن خمسون لا يبدّل القول لَدَيَّ» وهذا نص، فكيف يقال افترض عليه صلاة زائدة على الخمس، هذا ما لا يصح، وإن كان قد روي عنه عليه السلام: «ثلاث عليّ فريضة ولأمتي تطوع قيام الليل والوتر والسّواك» وقيل: كانت صلاة الليل تطوعًا منه وكانت في الابتداء واجبة على الكل، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة، كما قالت عائشة، على ما يأتي مبيّنًا في سورة المزمّل إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا يكون الأمر بالتنفل على جهة الندب ويكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مغفور له.
فهو إذا تطوّع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات.
وغيره من الأمة تطوّعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض؛ قال معناه مجاهد وغيره.
وقيل: عطية؛ لأن العبد لا ينال من السعادة عطاء أفضل من التوفيق في العبادة.
الثالثة: قوله تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} اختلف في المقام المحمود على أربعة أقوال:
الأوّل: وهو أصحها الشفاعة للناس يوم القيامة؛ قاله حُذيفة بن اليَمَان.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقامَ المحمود.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال حدّثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذرّيتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون إبراهيم فيقول لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأُوتَى فأقول أنا لها» وذكر الحديث.
وروى الترمذِيّ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {عسى أن يبعثك ربُّك مقامًا محمودًا} سئل عنها قال: «هي الشفاعة» قال: هذا حديث حسن صحيح.
الرابعة: إذا ثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام، حتى ينتهي الأمر إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع هذه الشفاعة لأهل الموقف ليعجّل حسابهم ويراحوا من هول موقفهم، وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل ذلك قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» قال النقاش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر.